المبادرات العلمية في مصر.. من الماضي إلى المستقبل

  • الرئيسية
  • /
  • المبادرات العلمية في مصر.. من الماضي إلى المستقبل

مزيد من المقالات

المبادرات العلمية في مصر.. من الماضي إلى المستقبل- الدكتور مجدي سعيد

شاء الله سبحانه وتعالى أن يخلق الإنسان حرا مبادرا، ألا ترى إلى طفلك الرضيع عندما يستطيع أن يمسك شيئا بيده يحرص على أن تكون الحرية في تناول الطعام أو رفضه. فإذا شب عن الطوق واستطاع أن يمشي على رجليه يتفلت من بين أيدي والديه يريد أن يسعى على الأرض أو يجري في طرقاتها، حريصا بهذا السلوك أو ذاك على تأكيد سمات الحرية والمبادرة المتأصلة في جيناته، وحينها لا يبقى من الأبوين الحكيمين إلا أن يبقوا أعينهم تحرس طفلهم دون أن تقيد حريته، تمنعه فقط وهو في هذه السن الصغيرة إذا أوردته حريته موارد التهلكة.

والمجتمعات والشعوب في سلوكياتها الاجتماعية ومبادراتها الناجحة تعبر دائما عن هاتين السمتين الفطريتين. وقد حفل تاريخنا البعيد والقريب بنماذج من المبادرات التي عبرت أفضل تعبير عن ذلك.

ففي تاريخنا البعيد رأينا نماذج شتى لمؤسسة “الوقف” وتنوع واتساع مجالات عملها. والوقف كما يعرف هو حبس للأصل، وتسبيل للثمرة، لذا سمي في المغرب العربي باسم الحبوس. وقد قال العلماء في الوقف إن “شرط الواقف كنص الشارع”، ما يعني أن إرادة الواقف يجب أن تبقى حرة في تحديد كيف يتم تسبيل الثمرة. وقد رأينا في الحضارة الغربية كيف كانت المؤسسات الشبيهة بالأوقاف مما يسمى بالـ trusts or foundations أدوات حاضنة لنشأة أعظم الجامعات والمؤسسات البحثية التي تحقق مصالح الناس، وربما تحتاج مؤسسات الأوقاف في بلادنا العربية والإسلامية إلى أن تتطور في فكرها الإداري والاستثماري وآفاق تسبيل الثمرات لديها مع رفع ما يقيد حرية إرادتها حتى تؤتي ثمارها المرجوة في تطوير مجتمعاتنا.

أما في تاريخنا الحديث، فقد عرفت مصر الأشكال الجديدة للمبادرات ممثلة أولا في الجمعيات الأهلية المصرية، والتي كان للإمام محمد عبده دورا رائدا فيها ، دعوة إليها، وتأسيسا وإدارة لها، وكانت “الجمعية الخيرية الإسلامية” هي درة تلك الجمعيات، والتي تأسس في ظلها أول مستشفى أهلي مصري.

كما عرفت مصر بزعامة مصطفى كامل تأسيس أول منتدى لطلاب وخريجي المدارس العليا في مصر، وهو نادي المدارس العليا الذي تأسس عام 1905، والذي كان يتداول في شئون الأمة المصرية في ظل الاحتلال البريطاني.

وفضلا عن دور النادي في شحذ الروح الوطنية المتطلعة للاستقلال فقد كان أيضا “منبتا لمشاريع نهضة مصر”، فمنه خرجت عدة مشاريع كانت تستهدف النهوض بكافة طوائف الشعب المصري، منها: مدارس الشعب الليلية، وهي مدارس لا تستهدف فقط تعليم من لم يتعلم من الشعب المصري القراءة والكتابة، وإنما بناء وعيه كاملا بكل ما يلزم. ومنها نقابة عمال الصنائع اليدوية، والتي كانت نقابة شاملة لمن يشتغلون بالمصانع الحديثة من عمال، ولأصحاب الحرف المختلفة، وكأنها كانت خليفة حديثة وعصرية لطوائف الحرف التي كانت موجودة في مصر منذ زمن طويل. ومنها نقابات التعاون الزراعية والتي كانت أساسا للحركة التعاونية التي انتشرت في مصر بأشكال وفي مجالات مختلفة منذ ذلك التاريخ. وفي هذا النادي نوقشت وجمعت الاكتتابات لتأسيس الجامعة الأهلية المصرية.

وإذا فتشنا عن المبادرات العلمية في وسط هذا الزخم الذي عرفته مصر أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، فسوف نجد من أوائل تلك المبادرات، مبادرة الخديوي إسماعيل عام 1875 بتأسيس الجمعية الجغرافية المصرية، والتي ارتبطت بالمشروع الجيوسياسي لحماية منابع النيل ومدخل البحر الأحمر، فلما سقط حكم إسماعيل، وسقطت مصر تحت حكم الاحتلال البريطاني، تراجع دور الجمعية.

وإذا قارنا جمعيتنا الجغرافية ودورها التنموي المتواري بالجمعية الجغرافية الأمريكية المعروفة عالميا باسم National Geographic التي تأسست عام 1888، ربما نستطيع أن نعرف الفرصة التنموية المهدرة على مدار ما يقرب من 150 عام.

فالجمعية الجغرافية لديهم أسسها 33 من المستكشفين والعلماء وهواة السفر، بينما جاءت جمعيتنا بمبادرة من الحاكم، استعان فيها بمستكشفين أجانب. ومنذ العام الأول لجمعيتهم بدأ دورها في نشر الثقافة العلمية والتواصل مع الجمهور من خلال مجلتهم الشهيرة، وشيئا فشيئا تعاظم دور ناشونال جيوجرافيك لينتقل من المستوى الوطني الأمريكي إلى المستوى العالمي، وانتقل دورها من الإعلام العلمي إلى التعليم والتنشئة العلمية وكل ما من شأنه تعزيز روح الشغف بالاستكشاف، وتوسعت مجالات عملها العلمي لتتداخل فيه علوم الجغرافيا، والأنثروبولوجيا، والجيولوجيا وعلوم البيئة، وتعززت إمبراطوريتها الإعلامية حتى أصبحت لها القنوات الفضائية والعديد من المجلات والمواقع الإلكترونية فضلا عن الكتب والأفلام، وفي المجمل فإن رسالتها الإعلامية العالمية تصل إلى ما يزيد عن 350 مليون إنسان حول العالم شهريا.

لكن أعظم أدوار الجمعية الجغرافية الأمريكية من وجهة نظري هو دورها في “التنشئة العلمية”، والذي تلعبه مرة من خلال منشوراتها الإعلامية، ومرة من خلال دورها في إعداد وتأهيل وتدريب معلمي الجغرافيا، وإعداد مناهجها، ومرة ثالثة وهو الأهم من وجهة نظري من خلال الأنشطة غير الصفية التي تنظمها الجمعية من مسابقات بين المدارس، وبرامج استكشافية يقوم بها طلاب المدارس National Geographic Expeditions ، وبرامج للتواصل بين البعثات الاستكشافية والطلاب، وغير ذلك مما من شأنه إثارة الشغف لدى النشء، وتعميق المعارف العلمية، واكتساب المهارات الاستكشافية.

تأسس الهلال الأحمر المصري عام 1911 كمؤسسة أهلية من المجتمع المصري للعدوان الإيطالي على ليبيا، ثم كاستجابة أهلية على حرب القوى الأوروبية على الدولة العثمانية في الحرب التي عرفت باسم حرب البلقان، وهي مؤسسة كانت تحظى بدعم من أمراء وأميرات الأسرة الحاكمة آنذاك، فضلا عن دعم الشعب والنخب المصرية.

وعلى الرغم مما قد يبدو من بعد الهلال الأحمر عن المبادرات العلمية بمعناها المباشر، إلا أنه لا يخفى على أحد ما لأعمال الإغاثة من صلة بالعلوم الطبية وغيرها من سائر العلوم المتعلقة بالإنقاذ سواء في حالات الحروب أو حالات الكوارث الطبيعية، وهي علوم تطورت كثيرا عبر الزمن منذ ذلك التاريخ.

وربما يعطينا تكرار الكوارث الطبيعية (من زلازل، وفيضانات وسيول وبراكين) وانتشار الحروب في منطقتنا جرس إنذار بضرورة إعداد جيش من الكوادر البشرية المتطوعة ليس فقط في مجال الإغاثة الطبية ولكن أيضا في فنون الإنقاذ، أملا في أن يتحول الهلال الأحمر المصري يوما إلى واحدة من أكبر هيئات الإغاثة على الأقل في المنطقة والإقليم المحيط، وهذا يقتضي عملا طويلا في التدريب ليس فقط على عمليات الإسعاف الطبي التقليدي والذي ربما تقدمه جمعية الهلال الأحمر حاليا، ولكن أيضا في عمليات الإنقاذ في الظروف الاستثنائية غير التقليدية التي قد تحدث هنا وهناك في مثل تلك الكوارث والحروب، طالع على سبيل المثال قصة أطفال كهف ثام لوانج التي حدثت في تايلاند عام 2018، وهي القصة التي شدت انتباه العالم لأسابيع، وتطلبت الكثير من العلوم والمعارف، والخبرات والمهارات لإتمام عملية الإنقاذ التي حدثت، كما تطلبت الكثير من التعاضد الاجتماعي الطوعي.

وإذا كانت طبيعة بلادنا قد لا تتشابه مع طبيعة تايلاند، إلا أن الحوادث التي تتطلب إنقاذا تحدث هنا وهناك في البيئات الفرعية في بلادنا، إن في سيناء وجبالها، أو في أسوان وسيولها وغير ذلك، وهي حوادث تحتاج دائما إلى فريق مدرب ومحترف وعلى أعلى مستوى، يا حبذا لو استطعنا من خلال نشاط تطوعي واسع محيط بجمعية الهلال الأحمر المصري أن نعده لا ليكون جاهزا لما يحدث في مصر فقط، ولكن لكي يكون ذراعا من أذرع القوة الناعمة لمصر فيما حولها من إقليميا وعالميا، ولا أظن أن جمعية الهلال الأحمر المصري التي تحولت إلى هيئة شبه حكومية – تخلو من حرارة وشغف وحماس التطوع والمتطوعين حينما يشعرون أنهم إنما يتجهزون لمهام إنسانية – قادرة حاليا وفي وضعها الحالي على القيام به وحدها.

إحدى المبادرات الفريدة في تاريخ مصر، وقد تأسس المجمع عام 1930 كأول هيئة أهلية معنية بالعمل على نشر الثقافة العلمية وبث الروح العلمية في البيئة المصرية، والعمل على العناية باللغة العربية لغة للعلم، وإنشاء رابطة بين المشتغلين بالعلوم من الناطقين بالعربية والمستعربين، وإبداء الرأي في المشروعات الحيوية، وذلك من خلال عقد اجتماعات عامة تلقى فيها المحاضرات، وطبع تلك المحاضرات ونشرها إما في كتاب سنوي أو فرادى، وإصدار نشرة دورية للمجمع.

والغريب أن تعرف أن هذا المجمع ظل له نشاط حتى عام 1989 على الأقل، لكن أظن أن القليلين من المهتمين بالثقافة العلمية يعرفون المجمع على ندرة وأهمية رسالته التي تضمنها اسمه، وقد عرفت عنه رغم اهتمامي بالصدفة البحتة، عندما كنت أتسكع أمام باعة الكتب المستعملة على أرصفة منطقة الإسعاف بالقاهرة، وعثرت على عددين من إصدارات المجمع التي كانت تضم المحاضرات التي ألقيت في حينه، وعبثا حاولت العثور على أعداد أخرى منه. وقد ذكرت المجمع كجزء من تاريخ مصر في الثقافة العلمية في كلمة تحدثت عام 2015 بها عندما كنت رئيسا لتحرير الطبعة العربية من مجلة نيتشر أمام مجموعة من الشباب الناشط في “شعبنة العلوم popularization of science” التقوا للتعارف والتفكير في المستقبل، وهو الاجتماع الذي أثمر لاحقا عن تأسيس مبادرة “أسبوع العلوم المصري” ، الذي جرى تنظيمه بالتعاون بين عدة مبادرات صغيرة أسسها هؤلاء الشباب، وبين الشباب الأكبر سنا، والذين اكتسبوا خبرة أطول في تنظيم الفعاليات منذ عام 2002، وذلك تحت إشراف ورعاية أكاديمية البحث العلمي في ظل رئاسة الأستاذ الدكتور محمود صقر، وقد استطاع المتطوعون في أسبوع العلوم الوصول بمحاضراتهم وعروضهم العلمية إلى كافة الجامعات المصرية تقريبا خلال موسمين من مواسم أسبوع العلوم المصري.

حركة نوادي العلوم في مصر

من المعروف لدى الكافة افتقار مؤسساتنا التعليمية للمعامل العلمية، خاصة في المراحل قبل الجامعية، وربما يرجع ذلك إلى تدني ميزانيات التعليم في عقود كثيرة سابقة، وأظن أن هذا الأمر كان دافعا للصحفي المرموق الأستاذ صلاح جلال – رحمه الله – لتأسيس حركة نوادي علوم الأهرام عام 1967، فكما يقال إذا كان تعلم العلوم عبر المحاضرات والقراءة مفيدا ومهما، إلا أنه لا يكفي وحده لإثارة شغف النشء والشباب بالعلوم، وتمام فهمهم لها، ولذلك كان التعلم العلمي لا يكتمل إلا بأن يجرب الإنسان بنفسه، ويقوم بإجراء التجارب بيديه وهو ما يعرف باسم Hands-On Learning .

وعلى الرغم مما تحلى به الأستاذ صلاح جلال من حماس، وإيمان حقيقي بدور العلوم، وأهمية التعلم العملي لها من خلال ما يعرف بالأنشطة غير الصفية، وعلى الرغم من تبني جهات حكومية كثيرة لفكرة وحركة نوادي العلوم سواء أكاديمية البحث العلمي، أو وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة الثقافة، والمجلس الأعلى للشباب والرياضة كل في مجاله، وهو ما أثمر عن تأسيس تلك النوادي في بعض المدارس والجامعات، إلا أن ذلك لم يثمر إلا حركة فاترة واهتماما ضعيفا من الجمهور المستهدف لا يساوي ما بذلته اللجان المشكلة هنا وهناك من فكر ومال، وانتهى الحال بنشاط نادي علوم الأهرام مثلا إلى الاكتفاء باستضافة بعض الباحثين والعلماء والإعلاميين العلميين لإلقاء محاضرات متعلقة بالعلوم في مبنى مؤسسة الأهرام، وهو ما جعل تعلم العلوم على ما هو عليه تعلما نظريا أكثر منه عمليا Hands-Off Learning.

جمعية مهندسو الكهرباء والإلكترونيات

وقد صادف حال نوادي العلوم في الجامعات هذا مجموعة من شباب كليات الهندسة أواخر تسعينيات القرن الماضي، حينما أرادوا أن يؤسسوا لنشاط علمي في جامعاتهم، وهو النشاط الذي انتهى بمجموعات منهم – على غير اتفاق ومعرفة فيما بينهم – في جامعات القاهرة، والزقازيق والعاشر إلى تعرفهم على الاهتمام الناشئ لدى جمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات والتي تعرف اختصارا باسم IEEE بداية من عام 1998، حينما حضر اثنان منهم المؤتمر الأول للأفرع الطلابية لتلك الجمعية فيما يعرف بالمنطقة الثامنة، والتي تضم بلدان أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، والذي عقد في إسطنبول في ذلك العام، ثم حضور عدد أكبر منهم للمؤتمر الثاني والذي عقد في جامعة أيندهوفن بهولندا عام 2000، وبحماسة الشباب طلبوا أن يكون تنظيم المؤتمر الثالث للأفرع الطلابية في القاهرة عام 2002، وهو ما كان لهم.

كان هذا التعرف واللقاء والاشتباك مع الجمعية، هو بداية لحركة شبابية بدأت بثلاث جامعات، ثم خمس جامعات قبل انعقاد المؤتمر الدولي الثالث، بعد انضمام جامعة الإسكندرية والأكاديمية فرع الإسكندرية، وظلت تلك الحركة تنمو وتتطور وتتوسع وتثمر ثمارا لا حصر لها على مدار ربع قرن، تدفعها “روح التطوع المهني” ، وهي الروح التي قدر لي أن أقوم بتوثيقها على مدار الشهور الماضية من عام 2024، لتخرج في سفر ضخم بداية هذا الشهر، نوفمبر 2024.

كان نجاح تلك الحفنة القليلة من الطلاب والأفرع الطلابية في تنظيم الحدث الدولي الضخم – المتمثل في المؤتمر الدولي الثالث للأفرع الطلابية، والمؤتمر الدولي لأفرع الخريجين في المنطقة الثامنة – في مايو من عام 2002 مغريا لهم من أجل أن يقوموا بتنظيم فعالية مصرية تسعى في سد الفجوة بين الجامعة والصناعة، بحيث تقدم مشاريع تخرج الطلاب فضلا عن مشاريعهم في الدراسات العليا حلولا لمشكلات حقيقية تواجه الصناعة على أرض الواقع، وبحيث تتبنى الصناعة الحلول المقدمة لها من الجامعة سواء من الطلاب أو من الباحثين والعلماء، بدلا من استقدام خبراء أجانب لحل تلك المشكلات.

وبالفعل قام الطلاب بتنظيم الدورة الأولى لما عرف بـ”يوم الهندسة المصري” في نوفمبر من نفس العام، وقد أصبح “يوم الهندسة المصري” عاما بعد عام هو الحدث الهندسي الأكبر الذي يجمع بين الطلاب وشباب الخريجين من جهة، وبين العلماء والخبراء في مجالات هندسة الكهرباء، والإلكترونيات والحاسبات والاتصالات من جهة أخرى.

وقد حظيت أنشطة الشباب من طلاب وخريجين تحت مظلة جمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات بدعم العلماء الأفاضل الذين أشرفوا على عمل الفرع المصري للجمعية، بداية من الراحلين الأستاذ الدكتور عبد المنعم بلال، والأستاذ الدكتور محمد يونس، مرورا بكل من الدكتور سمير شاهين والدكتور أحمد حسن، وحتى الرئيس الحالي للفرع الدكتور أحمد مدين، لكن صاحب الفضل الأكبر في دعم هؤلاء الشباب، والذي يعتبر الأب الروحي لهذا النشاط كان الأستاذ الدكتور أحمد درويش، وزير الدولة السابق للتنمية الإدارية.

كما كانت وزارة الاتصالات منذ عهد الراحل الأستاذ الدكتور طارق كامل، هي الحاضنة الأكبر والراعي الرئيسي لهذا النشاط، سواء بنفسها، أو من خلال الهيئة القومية لتنظيم الاتصالات (NTRA)، أو من خلال صندوق تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (ITIDA)، كما حظيت النسخ العشرين التي أقيمت من يوم الهندسة المصري بحضور 3 من رؤساء الوزراء في عهود مختلفة، وحضور وزراء آخرين، كما حظيت بدعم عدد كبير من الشركات الوطنية والشركات متعددة الجنسيات في هذه المجالات.

وقد أدى هذا لنمو الإقبال الجماهيري على الفعالية حتى وصل إلى ما يتجاوز 20 ألفا، وحصلت على جائزة أفضل حدث في المنطقة الثامنة لجمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات ثلاث مرات طوال تاريخها.

وتحت مظلة وحدة شباب الخريجين، التي تتولى الإشراف على يوم الهندسة المصري تأسس برنامج “صنع في مصر”، وهو بالأساس برنامج تدريبي لطبة السنوات النهائية يأخذ شكل مسابقة بين مشاريع التخرج، يعلم الطلاب كيف يحولون أفكارهم إلى منتجات نهائية، وكيف يتواصلون مع الصناعة لمعرفة مشكلاتها، وكيف تكون مشاريع تخرجهم حلولا لتلك المشكلات، وكيف يحصلون على دعم ورعاية لمشاريعهم من الصناعة، وكيف يستطيعون عرض المشاريع التي انتهوا إليها على زوار المعرض الذي يقام ضمن فعاليات يوم الهندسة المصري. ويقوم البرنامج بترشيح منسق للمشروع من فريق المتطوعين، كما يقوم بترشيح موجه من قبل الصناعة، يكون في نفس تخصص المشروع، وقد استمر البرنامج من العام الدراسي 2005/ 2006، ولم ينقطع سوى سنتي كورونا.

وتحت مظلة نفس الوحدة تأسست النسخة المصرية من مسابقة فيوتشر سيتي أو مدينة المستقبل، وهي مسابقة عبارة عن برنامج تدريبي مبني على المشروع، مخصص لطلبة المدارس الإعدادية يتضمن بناء ماكيت لمدينة أو مشروع في مدينة باستخدام مواد معاد تدويرها، كما يتضمن مسابقة/ لعبة إلكترونية، ويتضمن أيضا كتابة مقال حول موضوع محدد يتغير كل عام. يطلب من كل مدرسة راغبة في المشاركة تكوين فريق من 3 تلاميذ، يشرف عليهم أحد المدرسين. ويتعلم التلاميذ المهارات اللازمة لكل مكونات المسابقة، مع تعلم مهارات الفعالية الشخصية، من العمل في فريق، ومهارة عرض مشاريعهم في المراحل المختلفة للبرنامج، كما يتضمن برنامج المسابقة تدريب المدرسين الذين تم ترشيحهم من مدارسهم للإشراف على الفرق المشاركة في المسابقة، حتى يقوموا بأدوارهم في الإشراف على أحسن وجه. وقد استمرت المسابقة لمدة 10 سنوات فقط، من 2007 إلى عام 2017، وتخرجت منها نماذج مشرفة من التلاميذ الذين شاركوا في التطوع في فريق المسابقة، والذين دخلوا كليات الهندسة فيما بعد، وصار أكثر من واحد منهم رؤساء لفريق المسابقة في سنوات تالية، كما شارك منها تلاميذ في نهائيات المسابقة الدولية في الولايات المتحدة الأمريكية. وخلال تلك الفترة تم تدريب أكثر من 1700 طالب، وأكثر من 500 معلم من أكثر من 550 مدرسة جاءت من أكثر من 20 محافظة وشارك في إدارة المسابقة وتسيير جميع أعمالها ما يزيد عن 700 متطوع، لكن وزارة التربية والتعليم ارتأت لسبب غير معلوم عدم إعطاء موافقتها على استمرار المسابقة منذ ذلك التاريخ.

كانت هذه هي الأنشطة الرئيسية الثلاث على المستوى الوطني قبل سنوات كوفيد-19، يضاف إليها مسابقة تطبيقات ناسا الفضائية، لكن خريطة الأنشطة أضيف إليها الكثير بعد تلك السنوات، مما يمكن تلمسه على مواقع الجهات الثلاث المشرفة على تلك الأنشطة ممثلة بشكل رئيسي في وحدة شباب المهنيين IEEE Young Professionals Egypt ولجنة الأنشطة الطلابية IEEE SAC Egypt والفرع المصري للجمعية IEEE Egypt Section. لكن تلك الجهات تقف على قاعدة عريضة من الأفرع الطلابية في الجامعات والمعاهد العليا، وصلت إلى ما يزيد عن 73 فرع حتى الآن، ولكل منها أنشطتها على مستوى الجامعات المنتشرة في ربوع مصر.

وبعد أن كانت الأنشطة العلمية غريبة في كليات الهندسة والحاسبات في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، وبعد أن بدأت الأنشطة قاصرة على تخصصات معينة، نستطيع أن نقول الآن إن روح النشاط العلمي انتشرت أولا في كل تخصصات الهندسة، بل وفي معظم الكليات العلمية في ربوع مصر. وقد كان لهذا الحراك العلمي في كليات الهندسة ثمراته التي لا تنكر على التنمية على المستوى المصري خاصة في القطاع الهندسي والتكنولوجي، كما كان له آثاره على شخصيات ومهارات ومعارف وخبرات كل فرد مر به، لم نلتق بواحد منهم إلا وذكرها، كما أنه فتح آفاق فرص العمل أمامهم، ودفع الكثير منهم لإنشاء شركاتهم الناشئة.

وراء هذا النجاح مجموعة من الأسرار التي أرى ضرورة أخذها في الحسبان عند التفكير في المبادرات العلمية ودورها التنموي في مصر أذكر منها هنا 3 أمور:

1. كان الانخراط في تلك الأنشطة اختيارا تطوعيا حرا من قبل الطلاب وشباب الخريجين، شعروا معه أنهم أولا يفيدون أنفسهم به، ويساهمون في تنمية ونهضة بلدهم، وأنهم يفعلون ذلك بنية خالصة، وهو ما أطلقنا عليه “روح التطوع المهني”.

2. كان لدى هؤلاء الشباب شعورا بأنهم يمتلكون هذا النشاط، ولا يمتلكونه في نفس الوقت، وذلك نتيجة القانون الحاكم لكل تلك الأنشطة، وهو تداول السلطة وتناقل الخبرة بين الجميع، فأي فرع طلابي لا يجوز للمجلس الذي يديره أن يبقى أكثر من عام، وعليه أن يقوم بتسليمه لمن بعده، وكان ذلك أيضا نظام إدارة يوم الهندسة المصري والأنشطة المنضوية تحته. بينما كانت المدة تمتد لعامين في المجالس الثلاثة المشرفة التي ذكرناها، وعلى كل صاحب منصب أن ينقله لمن بعده بعد ذلك. وبالتالي شعر الجميع أنه يكتسب الخبرة ويتعلم، وأنه شريك حقيقي في إدارة العمل.

3. سارت تلك الأنشطة على أرضية من التناغم بين ثلاثة أطراف: النشاط الشبابي المهني والتنموي الحر من جهة، والرعاية والدعم الحكومي الذي وفرته وزارة الاتصالات بشكل أساسي، وكان القطاع الخاص وطنيا ودوليا شريك أيضا في دعم نجاح تلك المنظومة.

وراء هذا النجاح مجموعة من الأسرار التي أرى ضرورة أخذها في الحسبان عند التفكير في المبادرات العلمية ودورها التنموي في مصر أذكر منها هنا 3 أمور:

– هناك إمكانية للوصول بالأنشطة الهندسية والتكنولوجية إلى أقصى مداها من حيث العمر بالبداية بالنشء من كافة الأعمار قبل الجامعية، ومن حيث الجغرافيا بالوصول إلى جميع الجامعات والمعاهد العليا والمدارس في جميع أنحاء مصر، ومن حيث التخصص بتشجيع الأنشطة المشابهة في التخصصات الهندسية الأخرى.

– الساحة حاليا مليئة بالمبادرات الصغيرة في مجالات تتماس مع ما نطمح إليه محاكاة نموذج الجمعية الجغرافية الأمريكية وطنيا، فمن مبادرات لاستكشاف وارتياد أماكن جديدة للسياحة الداخلية، إلى مبادرة لتعلم مهارات البقاء في الصحراء والبيئات المختلفة، إلى مبادرات لاستكشاف وتصوير الحياة البرية في مصر، وهناك دعم ورعاية من وزارة البيئة لبعض تلك المبادرات، هناك أيضا مبادرات لتوثيق وحفظ الموارد والثقافات الفرعية في مصر وما يرتبط بها من حرف يدوية، هناك أيضا مبادرات في الفلك استطاعت اجتذاب جمهور عاشق لاستكشاف السماء في مصر وتصويرها احترافيا، إلى علماء جغرافيا وجيولوجيا استطاعوا معا تدريب وتعليم فرق من الباحثين ميدانيا، إلى علماء استطاعوا تقريب الجغرافيا للجمهور العام بما يقدموه من جهد فردي ، إلى اهتمام من الدولة ببث الروح والحياة في الحركة الكشفية المصرية، هناك أيضا من العلماء من بذلوا جهدهم البحثي طوال ما يقرب من 40 عام لإعادة اكتشاف موارد مصر المتجددة وتحويل كل منها إلى فرص تنموية، كل هذا مجتمعا وأكثر يمثل إمكانية يمكن البناء عليها.

– هناك أيضا بعض المبادرات في المجال الطبي، بعضها يصل عمره إلى ربع قرن مثل مبادرة شريان العطاء التي تأسست في كلية طب عين شمس، وتخصصت في نقل الدم الآمن للمرضى المحتاجين، وراكمت خبرات عظيمة في هذا المجال. كما أن هناك حالة من الحراك يتمثل في وجود أنشطة في الكليات العلمية غير الهندسية، وأظن أن الإمكانات المتاحة في مجال الإغاثة الطبية والإنقاذ تحتاج إلى تطوير كي تستطيع أن تعظم من دور جمعية الهلال الأحمر المصري لجعلها إحدى القوى المهنية الناعمة لمصر في هذا المجال.

– هناك العديد من المبادرات في مجال تبسيط العلوم، مثل شارع العلوم وبسيط ، وعلم تيوب ، غيرها، وفي مجال تنظيم مؤتمرات الإعلام والتواصل العلمي عربيا ودوليا مثل شركة سايكوم إكس SciComm X ، كما أن نشاطا واضحا في مجال الثقافة العلمية قدمته كوكبة من الأقلام العلمية الجديدة سواء للأطفال أو الكبار، ويمكن في هذا مطالعة إنتاج كل من الأستاذ الدكتور طارق فرج، والدكتور أحمد سمير سعد ، والدكتور شادي عبد الحافظ ، وياسر أبو الحسب ، وهي كلها تسد فراغا في مجال الثقافة والصحافة العلمية والتواصل العلمي بشكل عام.

وختاما فإننا لابد أن ندرك أن هناك روحا تطوعية انتشرت في أوساط الشباب صبت بشكل جزئي في المبادرات العلمية خاصة خلال العقد أو العقدين الأخيرين، وهي تعمل على توظيف العلوم والتكنولوجيا في حل مشكلات البلاد وتلبية احتياجاتها، وأن على الدولة إذا أرادت استثمار هذه الروح أن تلعب دور الراعي، والداعم، والمشجع بما لا يقتل أو يقلل من الدافعية الذاتية للشباب الملتحق بتلك المبادرات وشعوره بالانتماء للمبادرة وامتلاكها وعدم امتلاكها في آن، الامتلاك من حيث شعورهم أن الفرصة متاحة للجميع كي يكتسب الخبرات والمعارف والمهارات من خلال تبادل الخبرات وتداول المناصب، أما عدم الامتلاك فمن حيث عدم احتكار أحد فيها لا للخبرة أو المعرفة أو المهارة ولا للسلطة من جهة ثانية وهو ما يعرف بالحوكمة.

وعلى الدولة ممثلة في حكومتها أن تعرف أن دور الراعي والداعم والمشجع، وهو الدور الذي لعبته مثلا وزارة الاتصالات بالنسبة للمبادرات الهندسية التكنولوجية، يختلف عن دور “هندسة” المبادرات أو إدخالها في دهاليز البيروقراطية المصرية التي تفقدها الروح وتفقد الملتحقين بها الدافعية الذاتية.

وإن من شأن التناغم المنشود بين العمل الأهلي العلمي وبين الحكومة والقطاع الخاص أن يساهم في تنمية وتطوير ونهضة مصر في كافة المجالات وأن يجعل من مصر أمة للريادة الاجتماعية فضلا عن ريادة الأعمال، والله أعلم.